فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} يريد به المنافع التي تقدم ذكرها.
والصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
الرابعة: قوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي انحروها على اسم الله.
و{صوافّ} أي قد صفّت قوائمها.
والإبل تُنحر قيامًا معقولة.
وأصل هذا الوصف في الخيل؛ يقال: صَفَن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثَنَى سُنْبُك الرابعة؛ والسّنبك طرف الحافر.
والبعير إذا أرادوا نحره تُعقل إحدى يديه فيقوم على ثلاث قوائم.
وقرأ الحسن والأعرج ومجاهد وزيد بن أسلم وأبو موسى الأشعريّ {صَوَافِيَ} أي خوالص لله عز وجل لا يشركون به في التسمية على نحرها أحدًا.
وعن الحسن أيضًا {صوافٍ} بكسر الفاء وتنوينها مخفّفةً، وهي بمعنى التي قبلها، لَكِن حذفت الياء تخفيفًا على غير قياس و{صوافَّ} قراءة الجمهور بفتح الفاء وشدها؛ من صفّ يَصُفّ.
وواحد صوافّ صافة، وواحد صوافي صافية.
وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو جعفر محمد بن علي {صوافِن} بالنون جمع صافنة.
ولا يكون واحدها صافنًا؛ لأن فاعلًا لا يجمع على فواعل إلا في حروف مختصة لا يقاس عليها؛ وهي فارس وفوارس، وهالك وهوالك، وخالف وخوالف.
والصافنة هي التي قد رفعت إحدى يديها بالعَقْل لئلا تضطرب.
ومنه قوله تعالى: {الصافنات الجياد} [ص: 31].
وقال عمرو بن كُلْثوم:
تركنا الخيلَ عاكفةً عليه ** مقلَّدةً أعنَّتَها صُفُونَا

ويروى:
تظل جيادُه نَوْحًا عليه ** مقلَّدةً أعنَّتَها صُفُونَا

وقال آخر:
ألِف الصُّفون فما يزال كأنه ** مما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال أبو عمرو الجَرْمِيّ: الصافن عرق في مقدم الرجل، فإذا ضرب على الفرس رفع رجله.
وقال الأعشى:
وكلّ كُمَيْت كجذع السَّحو ** ق يَرْنُو القِناء إذا ما صَفَنْ

الخامسة: قال ابن وهب: أخبرني ابن أبي ذئب أنه سأل ابن شهاب عن الصوافّ فقال: تقيّدها ثم تصفها.
وقال لي مالك بن أنس مثله.
وكان العلماء على استحباب ذلك؛ إلا أبا حنيفة والثّوريّ فإنهما أجازا أن تنحر باركة وقيامًا.
وشذّ عطاء فخالف واستحب نحرها باركة.
والصحيح ما عليه الجمهور؛ لقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} معناه سقطت بعد نحرها؛ ومنه وَجَبت الشمس.
وفي صحيح مسلم عن زياد بن جُبير أن ابن عمر أتى على رجل وهو ينحر بَدَنته باركةً فقال: ابعثها قائمة مقيَّدة سنةَ نبيّكم صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو داود عن أبي الزبير عن جابر، وأخبرني عبد الرحمن بن سابط: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه كانوا ينحرون البَدَنة معقولة اليسرى قائمةً على ما بقي من قوائمها.
السادسة: قال مالك: فإن ضَعُف إنسان أو تخوّف أن تنفلت بَدَنته فلا أرى بأسًا أن ينحرها معقولة.
والاختيار أن تُنحر الإبل قائمة غير معقولة؛ إلا أن يتعذر ذلك فتعقل ولا تُعَرْقَب إلا أن يخاف أن يضعف عنها ولا يقوى عليها.
ونحرها باركة أفضل من أن تعرقب.
وكان ابن عمر يأخذ الحربة بيده في عنفوان أَيْده فينحرها في صدرها ويخرجها على سنامها، فلما أسنّ كان ينحرها باركة لضعفه، ويمسك معه الحربة رجل آخرُ، وآخر بِخطامها.
وتضجع البقر والغنم.
السابعة: ولا يجوز النحر قبل الفجر من يوم النحر بإجماع.
وكذلك الأضحيّة لا تجوز قبل الفجر.
فإذا طلع الفجر حل النحر بمِنًى، وليس عليهم انتظار نحر إمامهم؛ بخلاف الأضحيّة في سائر البلاد.
والمنحر مِنًى لكل حاج، ومكة لكل معتمِر.
ولو نحر الحاج بمكة والمعتمرُ بمنًى لم يَحْرَج واحد منهما، إن شاء الله تعالى.
الثامنة: قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يقال: وجبت الشمس إذا سقطت، ووجب الحائط إذا سقط.
قال قيس بن الخَطِيم:
أطاعت بنو عوف أميرًا نهاهُم ** عن السِّلْم حتى كان أوّل واجبِ

وقال أوْس بن حَجَر:
ألم تكسف الشمسُ والبدرُ وال ** كواكبُ للجبل الواجب

فقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} يريد إذا سقطت على جنوبها ميتة.
كنّى عن الموت بالسقوط على الجنب كما كنّى عن النحر والذبح بقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا}.
والَكِنايات في أكثر المواضع أبلغ من التصريح.
قال الشاعر:
فتركته جَزَرَ السباعِ يَنُشْنَه ** ما بين قُلّة رأسه والمِعْصَمِ

وقال عنترة:
وضربت قَرْنَيْ كبشها فَتَجدّلا

أي سقط مقتولًا إلى الجَدالة، وهي الأرض؛ ومثله كثير.
والوُجوب للجَنْب بعد النحر علامة نزف الدّم وخروج الروح منها، وهو وقت الأكل، أي وقت قرب الأكل؛ لأنها إنما تبتدأ بالسلخ وقطع شيء من الذبيحة ثم يطبخ.
ولا تسلخ حتى تَبْرُد لأن ذلك من باب التعذيب؛ ولهذا قال عمر رضي الله عنه: لا تعجلوا الأنفس أن تزهق.
التاسعة: قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا} أمر معناه الندب.
وكل العلماء يستحبّ أن يأكل الإنسان من هَدْيه، وفيه أجر وامتثال؛ إذ كان أهل الجاهلية لا يأكلون من هَدْيهم كما تقدّم.
وقال أبو العباس بن شُريح: الأكل والإطعام مستحبان، وله الاقتصار على أيهما شاء.
وقال الشافعي: الأكل مستحب والإطعام واجب، فإن أطعم جميعها أجزاه وإن أكل جميعها لم يجزه، وهذا فيما كان تطوّعًا؛ فأما واجبات الدماء فلا يجوز أن يأكل منها شيئًا حسبما تقدّم بيانه.
العاشرة: قوله تعالى: {وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر} قال مجاهد وإبراهيم والطبريّ: قوله: {وأطعِموا} أمر إباحةٍ. و{القانِع} السائل.
يقال: قَنَع الرجل يَقْنَع قنوعًا إذا سأل، بفتح النون في الماضي وكسرها في المستقبل، يقنَع قناعة فهو قَنِع، إذا تعفف واستغنى ببلغته ولم يسأل؛ مثل حمِد يحمَد، قَناعة وقَنَعا وقَنَعانا؛ قاله الخليل.
ومن الأوّل قول الشّماخ:
لمَالُ المرء يُصلِحْه فيُغْنِي ** مَفاقِرَه أعفُّ من القُنُوع

وقال ابن السِّكيت: من العرب من ذكر القُنوع بمعنى القناعة، وهي الرضا والتعفّف وترك المسألة.
وروي عن أبي رجاء أنه قرأ {وأطعِموا القَنِع} ومعنى هذا مخالف للأوّل.
يقال: قَنِع الرجل فهو قَنِع إذا رضي.
وأما المعترّ فهو الذي يُطيف بك يطلب ما عندك، سائلًا كان أو ساكتًا.
وقال محمد بن كعب القُرَظِيّ ومجاهد وإبراهيم والكلبيّ والحسن بن أبي الحسن: المعتّر المعترض من غير سؤال.
قال زهير:
على مُكْثِرِيهم رزقُ من يعتريهمُ ** وعند المُقِلّين السماحةُ والبَذْلُ

وقال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقيرُ، والمعتر الزائر.
وروي عن الحسن أنه قرأ {والمعترى} ومعناه كمعنى المعتر.
يقال: اعترّه واعتراه وعرّه وعرَّاه إذا تعرّض لما عنده أو طلبه؛ ذكره النحاس.
{لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا} قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يضرّجون البيت بدماء البُدْن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك فنزلت الآية.
والنَّيل لا يتعلق بالبارىء تعالى، ولَكِنه عبّر عنه تعبيرًا مجازيًّا عن القبول، المعنى: لن يصل إليه.
وقال ابن عباس: لن يصعد إليه.
ابن عيسى: لن يقبل لحومها ولا دماءها، ولَكِن يصل إليه التقوى منكم؛ أي ما أريد به وجهه فذلك الذي يقبله ويُرفع إليه ويسمعه ويُثِيب عليه؛ ومنه الحديث: «إنما الأعمال بالنيات» والقراءة {لن ينال اللَّهَ} و{ينالُه} بالياء فيهما. وعن يعقوب بالتاء فيهما، نظرًا إلى اللحوم.
الثانية: قوله تعالى: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ} مَنّ سبحانه علينا بتذليلها وتمكيننا من تصريفها وهي أعظم مِنا أبدانًا وأقوى منا أعضاء، ذلك ليعلم العبد أن الأمور ليست على ما يظهر إلى العبد من التدبير، وإنما هي بحسب ما يريدها العزيز القدير، فيغلِب الصغيرُ الكبيرَ ليعلم الخلق أن الغالب هو الله الواحد القهار فوق عباده.
الثالثة: قوله تعالى: {لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هدَاكُمْ} ذكر سبحانه ذِكر اسمِه عليها في الآية قبلها فقال عزّ من قائل: {فاذكروا اسم اللَّهِ عليها}، وذكر هنا التكبير.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يجمع بينهما إذا نَحَر هَدْيَه فيقول: باسم الله والله أكبر؛ وهذا من فقهه رضي الله عنه.
وفي الصحيح عن أنس قال: «ضحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكَبْشين أمْلَحَيْن أقْرَنَيْن».
قال: ورأيته يذبحهما بيده، ورأيته واضعًا قدمه على صِفاحهما، وسَمّى وكبّر.
وقد اختلف العلماء في هذا؛ فقال أبو ثور: التسمية متعيّنة كالتكبير في الصلاة؛ وكافّة العلماء على استحباب ذلك.
فلو قال ذكرا آخر فيه اسم من اسماء الله تعالى وأراد به التسمية جاز.
وكذلك لو قال: الله أكبر فقط، أو لا إله إلا الله؛ قاله ابن حبيب.
فلو لم يرد التسمية لم يَجْز عن التسمية ولا تؤكل؛ قاله الشافعي ومحمد بن الحسن.
وكره كافة العلماء من أصحابنا وغيرهم الصلاةَ على النبيّ صلى الله عليه وسلم عند التسمية في الذبح أو ذِكره، وقالوا: لا يذكر هنا إلا الله وحده.
وأجاز الشافعيّ الصلاة على النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الذبح.
الرابعة: ذهب الجمهور إلى أن قول المضحِّي: اللَّهُمَّ تقبل مني؛ جائز.
وكره ذلك أبو حنيفة؛ والحجة عليه ما رواه الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، وفيه: ثم قال: «باسم الله اللَّهُمَّ تقبّل من محمد وآل محمد ومن أمّة محمد» ثم ضحَّى به.
واستحب بعضهم أن يقول ذلك بنص الآية: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} [البقرة: 127].
وكره مالك قولهم: اللهم منك وإليك، وقال: هذه بدعة.
وأجاز ذلك ابن حبيب من أصحابنا والحسن.
والحجة لهما ما رواه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: «ذبح النبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الذبح كبشين أقرنين مَوْجُوءَيْن أملحين، فلما وجّههما قال: إني وَجّهتُ وَجْهِيَ لِلذِي فَطَر السماوات والأرض حَنِيفًا وقرأ إلى قوله: {وأنا أوَّل المسلمِين} اللَّهُمَّ منك ولك عن محمد وأمته باسم الله والله أكبر ثم ذبح».
فلعلّ مالكًا لم يبلغه هذا الخبر، أو لم يصح عنده، أو رأى العمل يخالفه.
وعلى هذا يدل قوله: إنه بدعة. والله أعلم.
الخامسة: قوله تعالى: {وَبَشِّرِ المحسنين} رُوي أنها نزلت في الخلفاء الأربعة؛ حسبما تقدّم في الآية التي قبلها.
فأما ظاهر اللفظ فيقتضي العموم في كل محسِن. اهـ.

.قال أبو حيان:

{والبدن جعلناها لَكُمْ مّن شعائر الله}.
وقرأ الجمهور {البدن} بإسكان الدال.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وشيبة وعيسى بضمها وهي الأصل، ورويت عن أبي جعفر ونافع.
وقرأ ابن أبي إسحاق أيضًا بضم الياء والدال وتشديد النون، فاحتمل أن يكون اسمًا مفردًا بُني على فعل كعتل، واحتمل أن يكون التشديد من التضعيف الجائز في الوقف، وأجرى الوصل مجرى الوقف، والجمهور على نصب {والبدن} على الاشتغال أي وجعلنا {البدن} وقرئ بالرفع على الابتداء و{لكم} أي لأجلكم و{من شعائر} في موضع المفعول الثاني، ومعنى {من شعائر الله} من أعلام الشريعة التي شرعها الله وأضافها إلى اسمه تعالى تعظيمًا لها {لكم فيها خير} قال ابن عباس: نفع في الدنيا، وأجر في الآخرة.
وقال السدّي أجر، وقال النخعي: من احتاج إلى ظهرها ركب وإلى لبنها شرب {عليها صواف} أي على نحرها. قال مجاهد: معقولة. وقال ابن عمر: قائمة قد صفت أيديها بالقيود.
وقال ابن عيسى: مصطفة وذكر اسم الله أن يقول عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، اللهم منك وإليك. وقرأ أبو موسى الأشعري والحسن ومجاهد وزيد بن أسلم وشقيق وسليمان التيمي والأعرج: {صوافي} جمع صافية ونون الياء عمرو بن عبيد.
قال الزمخشري: التنوين عوض من حرف عند الوقف انتهى.
والأولى أن يكون على لغة من صرف ما لا ينصرف، ولاسيما الجمع المتناهي، ولذلك قال بعضهم والصرف في الجمع أي كثيرًا حتى ادّعى قوم به التخيير أي خوالص لوجه الله تعالى لا يشرك فيها بشيء، كما كانت الجاهلية تشرك.